فصل: الفائدة السابعة: من أقوال القدرية في الربوبية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الفائدة الخامسة: إضافة الحمد إلى ذات الله وإضافة نفسه إلى العالمين:

أضاف الحمد إلى نفسه فقال تعالى الحمد لله، ثم أضاف نفسه إلى العالمين والتقدير: إني أحب الحمد فنسبته إلى نفسي بكونه ملكًا لي ثم لما ذكرت نفسي عرفت نفسي بكوني ربًا للعالمين، ومن عرف ذاتًا بصفة فإنه يحاول ذكر أحسن الصفات وأكملها، وذلك يدل على أن كونه ربًا للعالمين أكمل الصفات، والأمر كذلك؛ لأن أكمل المراتب أن يكون تامًا، وفوق التمام، فقولنا الله يدل على كونه واجب الوجود لذاته في ذاته وبذاته وهو التمام، وقوله رب العالمين معناه أن وجود كل ما سواه فائض عن تربيته وإحسانه وجوده وهو المراد من قولنا أنه فوق التمام.

.الفائدة السادسة: ملك الله لعباد غيرنا:

أنه يملك عبادًا غيرك كما قال: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] وأنت ليس لك رب سواه، ثم أنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك وأنت تخدمه كأن لك ربًا غيره، فما أحسن هذه التربية أليس أنه يحفظك في النهار عن الآفات من غير عوض، وبالليل عن المخافات من غير عوض؟ واعلم أن الحراس يحرسون الملك كل ليلة، فهل يحرسونه عن لدغ الحشرات وهل يحرسونه عن أن تنزل به البليات؟ أما الحق تعالى فإنه يحرسه من الآفات، ويصونه من المخافات؛ بعد أن كان قد زج أول الليل في أنواع المحظورات وأقسام المحرمات والمنكرات، فما أكبر هذه التربية وما أحسنها، أليس من التربية أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الآدمي بنيان الرب، ملعون من هدم بنيان الرب»؛ فلهذا المعنى قال تعالى: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم باليل والنهار مِنَ الرحمن} [الأنبياء: 42] ما ذاك إلا الملك الجبار، والواحد القهار، ومقلب القلوب والأبصار، والمطلع على الضمائر والأسرار.

.الفائدة السابعة: من أقوال القدرية في الربوبية:

قالت القدرية: إنما يكون تعالى ربًا للعالمين ومربيًا لهم لو كان محسنًا إليهم دافعًا للمضار عنهم، أما إذا خلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه؛ ويأمر بالإيمان ثم يمنعه منه؛ لم يكن ربًا ولا مربيًا، بل كان ضارًا ومؤذيًا، وقالت الجبرية: إنما سيكون ربًا ومربيًا لو كانت النعمة صادرة منه والأَلطاف فائضة من رحمته، ولما كان الإيمان أعظم النعم وأجلها وجب أن يكون حصولها من الله تعالى ليكون ربًا للعالمين إليهم محسنًا بخلق الإيمان فيهم.

.الفائدة الثامنة: موازنة بين لفظتي: الله ورب:

قولنا: الله أشرف من قولنا: رب على ما بينا ذلك بالوجوه الكثيرة في تفسير أسماء الله تعالى، ثم أن الداعي في أكثر الأمر يقول: يا رب، يا رب، والسبب فيه النكت والوجوه المذكورة في تفسير أسماء الله تعالى فلا نعيدها. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {رَبِّ العالمين} أي مالكهم، وكل من ملك شيئًا فهو رَبّه؛ فالربُّ: المالك.
وفي الصحاح: والرب اسم من أسماء الله تعالى، ولا يقال في غيره إلا بالإضافة؛ وقد قالوه في الجاهلية للملِك، قال الحارث بن حِلِّزة:
وَهُوَ الربّ والشَّهيدُ على يَوْ ** مِ الْحِيَارَيْنِ والْبَلاَءُ بَلاءُ

والرب: السيد؛ ومنه قوله تعالى: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} [يوسف: 42].
وفي الحديث: «أنْ تلد الأَمَةُ ربَّتها» أي سيدتها؛ وقد بينّاه في كتاب التذكرة.
والربّ: المصلح والمدبّر والجابر والقائم.
قال الهَرَوِيّ وغيره: يقال لمن قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد رَبّه يَرُبّه فهو رَبّ له ورابّ؛ ومنه سمي الربّانيون لقيامهم بالكتب.
وفي الحديث: «هل لك مِن نعمة تَرُبُّها عليه» أي تقوم بها وتصلحها.
والربّ: المعبود؛ ومنه قول الشاعر:
أَرَبّ يبول الثُّعْلُبَانُ برأسه ** لَقَدْ ذلّ مَنْ بالتْ عليه الثَّعالِبُ

ويقال على التكثير: ربّاه وربّبه وربَّتَه؛ حكاه النحاس.
وفي الصحاح: ورَبّ فلان ولدَه يُرُّبه رَبًّا، وربَّبَه وَتَرَبَّبه بمعنىً؛ أي ربّاه.
والمَرْبوب: المربَّى.

.فائدة الاختلاف في كون كلمة: رب اسم الله الأعظم:

قال بعض العلماء: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم؛ لكثرة دعوة الداعين به، وتأمل ذلك في القرآن، كما في آخر آل عمران وسورة إبراهيم وغيرهما، ولما يشعر به هذا الوصف من الصلة بين الربّ والمَرْبوب، مع ما يتضمّنه من العطف والرحمة والافتقار في كل حال.
واختلف في اشتقاقه؛ فقيل: إنه مشتق من التربية؛ فالله سبحانه وتعالى مدبِّر لخلقه ومربيّهم، ومنه قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23].
فسمى بنت الزوجة رَبِيبة لتربية الزوج لها. فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم يكون صفة فعل؛ وعلى أن الربّ بمعنى المالك والسيد يكون صفة ذات.

.فائدة: دخول الألف واللام على ربّ اختصاص بالله تعالى:

متى أدخلت الألف واللام على ربّ اختص الله تعالى به؛ لأنها للعهد، وإن حذفنا منه صار مشتركًا بين الله وبين عباده. فيقال: الله رَبّ العباد، وزيد رَبّ الدّار؛ فالله سبحانه رَبّ الأرباب؛ يملك المالك والمملوك، وهو خالق ذلك ورازقه، وكل رَبٍّ سواه غير خالق ولا رازق، وكل مملوك فَمُملَّك بعد أن لم يكن، ومنتزع ذلك من يده، وإنما يملك شيئًا دون شيء؛ وصفة الله تعالى مخالفة لهذه المعاني، فهذا الفرق بين صفة الخالق والمخلوقين.

.فائدة: الاختلاف في تأويل: {العالمين}:

قوله تعالى: {العالمين} اختلف أهل التأويل في: {العالمين} اختلافًا كثيرًا؛ فقال قتادة: العالمَون جمع عالَم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، ولا واحد له من لفظه مثل رهط وقوم.
وقيل: أهل كل زمان عالم؛ قاله الحسين بن الفضل؛ لقوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين} [الشعراء: 165] أي من الناس.
وقال العَجَاج:
فَخنْدِف هامةُ هذا العالَمِ ** وقال جرير بن الخَطَفَى:

تَنَصَّفُه البريّةُ وهْوَ سامٍ ** ويُضحِي العالَمون له عِيالا

وقال ابن عباس: العالَمون الجنّ والإنس؛ دليله قوله تعالى: {لِيَكُونَ للعالمين نَذِيرًا} [الفرقان: 1] ولم يكن نذيرًا للبهائم.
وقال الفرّاء وأبو عبيدة: العالَم عبارة عمن يعقل؛ وهم أربع أمم: الإنس والجنّ والملائكة والشياطين.
ولا يقال للبهائم: عالَم؛ لأن هذا الجمع إنما هو جَمْع مَن يعقل خاصّة.
قال الأعشى:
ما إنْ سمعتُ بمثلهم في العالَمينا

وقال زيد بن أسلم: هم المرتزقون؛ ونحوه قول أبي عمرو بن العلاء: هم الروحانيون.
وهو معنى قول ابن عباس أيضًا: كل ذي رُوح دبّ على وجه الأرض.
وقال وَهَب بن مُنَبّه: إن لله عزّ وجلّ ثمانية عشر ألف عالَم؛ الدنيا عالَم منها.
وقال أبو سعيد الخُدْرِي: إن لله أربعين ألف عالَم؛ الدنيا مِن شرقها إلى غربها عالَم واحد.
وقال مقاتل: العالمُون ثمانون ألف عالَم، أربعون ألف عالَم في البر، وأربعون ألف عالم في البحر.
وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: الجنّ عالم، والإنس عالَم؛ وسوى ذلك للأرض أربع زوايا في كل زاوية ألف وخمسمائة عالَم، خلقهم لعبادته.
قلت: والقول الأوّل أصحّ هذه الأقوال؛ لأنه شامل لكل مخلوق وموجود؛ دليله قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} [الشعراء: 23].
ثم هو مأخوذ من العَلَم والعَلاَمة؛ لأنه يدل على مُوجده.
كذا قال الزجاج قال: العالَم كل ما خلقه الله في الدنيا والآخرة.
وقال الخليل: العَلَم والعَلاَمة والمَعْلَم: ما دَلّ على الشيء؛ فالعالَم دالّ على أن له خالقًا ومدبرًا، وهذا واضح.
وقد ذُكر أن رجلًا قال بين يدي الجُنَيد: الحمد لله؛ فقال له: أتمها كما قال الله، قل: رَبّ العالمين؛ فقال الرجل: ومَن العالَمين حتى تذكر مع الحق؟ قال: قل يا أخي؟ فإن المحدَث إذا قُرن مع القديم لا يبقى له أثر.

.فائدة: جواز الرفع والنصب في {ربّ}:

يجوز الرفع والنصب في {ربّ} فالنصب على المدح، والرفع على القطع؛ أي هو رب العالمين. اهـ.. بتصرف يسير.

.قال أبو حيان:

{الحمد} الثناء على الجميل من نعمة أو غيرها باللسان وحده، ونقيضه الذم، وليس مقلوب مدح، خلافًا لابن الأنباري، إذ هما في التصريفات متساويان، وإذ قد يتعلق المدح بالجماد، فتمدح جوهرة ولا يقال تحمد، والحمد والشكر بمعنى واحد، أو الحمد أعم، والشكر ثناء على الله تعالى بأفعاله، والحمد ثناء بأوصافه ثلاثة أقوال، أصحها أنه أعم، فالحامد قسمان: شاكر ومثن بالصفات.
{لله} اللام: للملك وشبهه، وللتمليك وشبهه، وللاستحقاق، وللنسب، وللتعليل، وللتبليغ، وللتعجب، وللتبيين، وللصيرورة، وللظرفية بمعنى في أو عند أو بعد، وللإنتهاء، وللإستعلاء مثل: ذلك المال لزيد، أدوم لك ما تدوم لي، ووهبت لك دينارًا،: {جعل لكم من أنفسكم أزواجًا} الجلباب للجارية، لزيد عم،: {لتحكم بين الناس} قلت لك، ولله عينًا، من رأى، من تفوق،: {هيت لك} {ليكون لهم عدوًا وحزنًا} {القسط ليوم القيامة} كتب لخمس خلون، {لدلوك الشمس} {سقناه لبلد ميت} {يخرون للأذقان}. اهـ.

.قال أبو السعود:

{رَبّ العالمين} بالجر على أنه صفة لله، فإن إضافته حقيقيةً مفيدة للتعريف على كل حال، ضرورةَ تعيُّن إرادة الاستمرار، وقرئ منصوبًا على المدح، أو بما دلت عليه الجملةُ السابقة، كأنه قيل: نحمد الله ربَّ العالمين ولا مساغَ لنصبه بالحمد لقلة أعمال المصدر المُحلى باللام، وللزوم الفصل بين العامل والمعمول بالخبر، والرب: في الأصل مصدر بمعنى التربية وهي تبليغُ الشيءِ إلى كماله شيئًا فشيئًا، وُصف به الفاعل مبالغةً كالعدل.
وقيل: صفة مشبهة، من ربَّه يرُبُّه، مثل نمَّه يُنمُّه، بعد جعله لازمًا بنقله إلى فعُل بالضم، كما هو المشهور، سُمّي به المالكُ لأنه يحفظ ما يملِكه ويربيه، ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيدًا كربُّ الدار وربُّ الدابة، ومنه قوله تعالى: {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} وقوله تعالى: {ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ} وما في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَقُل أحدُكم أطعِمْ ربك، وضِّئ ربَّك، ولا يَقُلْ أحدُكم ربِّي، ولْيَقُل سَيّدي ومولاي».
فقد قيل: إن النهيَ فيه للتنزيه، وأما الأربابُ فحيث لم يمكن إطلاقُه على الله سبحانه جاز في إطلاقه الإطلاق والتقييد، كما في قوله تعالى: {مُّتَّفَرّقُونَ خَيْر} الآية. والعالم اسم لما يُعْلَم به، كالخاتَم والقالَب، غلب فيما يُعْلَم به الصانعُ تعالى من المصنوعات أي في القَدْرِ المشترك بين أجناسها وبين مجموعِها، فإنه كما يُطلق على كل جنسٍ جنس منها في قولهم عالم الأفلاك، وعالمُ العناصر، وعالمُ النبات، وعالم الحيوان، إلى غير ذلك، يطلق على المجموع أيضًا، كما في قولنا العالم بجميع أجزائه مُحْدَث، وقيل: هو اسم لأولي العلم من الملائكة والثقلين وتناولُه لما سواهم بطريق الاستتباع.
وقيل: أريد به الناسُ فقط، فإنَّ كلَّ واحدٍ منهم من حيث اشتمالُه على نظائِر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يُعلم بها الصانع، كما يُعلم بما في كل عالَم على حِيالِه، ولذلك أمُر بالنظر في الأنفس كالنظر في الآفاق، فقيل: {وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} والأول هو الأحق الأظهر، وإيثارُ صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع الأجناس، والتعريفُ لاستغراق أفراد كلَ منها بأسرها، إذ لو أفرد لربما تُوهِّم أن المقصود بالتعريف هو الحقيقة من حيث هي، أو استغراقُ أفرادِ جنسٍ واحد على الوجه الذي أشير إليه في تعريف الحمد، وحيث صح ذلك بمساعدة التعريف نُزِّلَ العالم وإن لم يُطلق على آحاد مدلوله منزلة الجمع، حتى قيل: إنه جمع لا واحد له من لفظه، فكما أن الجمعَ المعَرَّفَ يستغرق آحادَ مُفرَدِه وإن لم يصدُقْ عليها كما في مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي كلَّ محسن، كذلك العالمُ يشملُ أفرادَ الجنسِ المسمَّى به، وإن لم يُطلق عليها، كأنها آحادُ مفردِه التقديريّ، ومن قضية هذا التنزيلِ تنزيلُ جمعِه منزلةَ جمعِ الجمع، فكما أن الأقاويلَ تتناول كلَّ واحد من آحادِ الأقوال، يتناول لفظُ العالمين كلَّ واحد من آحادِ الأجناس التي لا تكاد تُحصى.
روي عن وهْب بن منبه أنه قال: لله تعالى ثمانيةَ عشرَ ألفَ عالَم، والدنيا عالم منها وإنما جُمِع بالواو والنون مع اختصاصِ ذلك بصفاتِ العُقلاء وما في حكمها من الأعلام لدلالته على معنى العَلَم، مع اعتبار تغليبِ العقلاء على غيرهم. واعلم أن عدم إطلاقِ اسم العالَم على كل واحد من تلك الآحادِ ليس إلا باعتبار الغلَبة والاصطلاح، وأما باعتبار الأصل فلا ريب في صحة الإطلاقِ قطعًا لتحقّق المصداقِ حتمًا، فإنه كما يُستدل على الله سبحانه بمجموع ما سواه، وبكل جنسٍ من أجناسِه يُستدل عليه تعالى بكل جزءٍ من أجزاءِ ذلك المجموع، وبكل فردٍ من أفراد تلك الأجناس، لتحقّق الحاجةِ إلى المؤثِّر الواجب لذاته في الكُلِّ، فإنَّ كل ما ظهرَ في المظاهر مما عزَّ وهانَ وحضَرَ في هذه المحاضر كائنًا ما كان دليل لائح على الصانع المجيد، وسبيل واضح إلى عالم التوحيد، وأما شمولُ ربوبيته عز وجل للكل فمما لا حاجة إلى بيانه، إذ لا شيءَ مما أحدق به نطاقُ الإمكان والوجود من العُلويات والسُفليات والمجرّدات والماديات والروحانيات والجسمانيات إلا وهو في حدّ ذاته بحيث لو فُرض انقطاعُ آثارِ التربية عنه آنًا واحدًا لما استقر له القرار، ولا اطمأنت به الدار، إلا في مطمورة العدم ومهاوي البوار، لكن يُفيضُ عليه من الجناب الأقدس، تعالى شأنُه وتقدس، في كل زمانٍ يمضي، وكل آنٍ يمر وينقضي، من فنون الفيوضِ المتعلقةِ بذاته، ووجودِه وصفاتِه وكمالاتِه مما لا يحيطُ به فَلَكُ التعبير ولا يعلمه إلا العليمُ الخبير، ضرورةَ أنه كما لا يستحق شيء من الممكنات بذاتِه الوجودَ ابتداءً لا يستحقه بقاءً، وإنما ذلك من جناب المُبدأ الأول عز وعلا، فكما لا يُتصور وجودُه ابتداءً ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمِه الأصلي، لا يتصور بقاؤُه على الوجود بعد تحققه بعِلَّته ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمِه الطارئ، لما أن الدوام من خصائص الوجودِ الواجبي، وظاهر أن ما يتوقف عليهما وجودُه من الأمور الوجودية التي هي عِلَلُهُ وشرائِطُه وإن كانت متناهيةً لوجوب تناهي ما دخلَ تحتَ الوجود، لكنِ الأمورُ العدميةُ التي لها دخل في وجوده وهي المعبَّر عنها بارتفاع الموانع ليست كذلك، إذْ لا استحالة في أن يكون لشيءٍ واحدٍ موانعُ غيرُ متناهية يتوقف وجودُه أو بقاؤه على ارتفاعها، أو بقائها على العدم مع إمكان وجودها في نفسها، فإبقاءُ تلك الموانِع التي لا تتناهى على العدم تربية لذلك الشيءِ من وجوهٍ غيرِ متناهية.
وبالجملة فآثارُ تربيتِه عز وجل الفائضةُ على كل فرد من أفراد الموجودات في كل آنٍ من آنات الوجود غيرُ متناهية، فسبحانه ما أعظمَ شأنَه لا تلاحظه العيونُ بأنظارها، ولا تطالعُه العقولُ بأفكارها، شأنُه لا يُضاهى، وإحسانُه لا يتناهى، ونحن في معرفته حائِرون، وفي إقامة مراسمِ شكرِه قاصرون، نسألك اللهم الهدايةَ إلى مناهج معرفتِك، والتوفيقَ لأداء حقوقِ نعمتك، لا نُحصي ثناءً عليك لا إله إلاّ أنت، نستغفرُك ونتوب إليك. اهـ.